
سأخونك يا وطني
ضع نقطة على سطر التاريخ . لبنان إنتهى . الهاوية تتسع . الآلام تتعاظم . الرؤيا عمياء . لا بارقة أمل . الطوائف قتلت لبنان ولا تريد دفنه ولا أحد مستعد لوراثة التركة المزمنة .
كان ذلك متوقعاً . شياطين الطوائف عاثت بالتجربة اللبنانية المتهالكة ، مرة تلوة مرة أو مراراً كثيرة . منعت عنه العافية الوطنية . لم يكن وطناً هذا الكيان . كان ملجأ مفترضاً ، فأضحى مغارة للصوص السياسة وفقهاء التبرير وأبالسة المال وعصابات النهب . ولا مرة كان "لبنان: وطناً . ولا مرة كان سكانه مواطنين . ولا مرة كان يتقدم بل كان يتراجع دائماً حتى بلغ المئة سنة وهو لقيط لطوائف سامة وطائفيين متمرسين بألاعيب معيبة وعلنية ، وبلا خجل .
حلمنا مراراً أن يصير لبنان دولة ، وطناً او مأوى مناسباً . فشلنا وكان الفشل ثقيلاً . حلمنا بديموقراطية مقبولة , فمنعوها عنا ، وعوّضوا عنها بالتوافقية النفاقية . دربونا على التعصب وعلى التكاذب . قضوا على أفكار خلاصية ، كالمدنية والحرية والمساءلة والمحاسبة والقضاء النزيه والإنفاق المدروس والتربية الوطنية وألف صفة من صفات المواطنة . كانوا عباقرة في الإرتكاب . إنتزعوا منا كل ما هو جميل ونظيف وإنساني وإجتماعي وتقدمي ووطني . أقاموا لنا زرائب حيوانية ، فتحوَّل الكثيرون إلى قطعان طائفية هائجة كثيراً في ساحة “كالتوريرو” .
الغريب جداً أنهم يعرفون ما نعرفه عنهم ولا يبالون . يعرفون رأينا فيهم علناً . يعرفون أننا نعرف نهبهم وسرقاتهم وإنتماءاتهم وعقولهم الجهنمية وخياناتهم السياسية . إنهم على دين الإرتكاب ، والناس خلفهم على دين ملوكها . وملوكنا “زعماء” كذبة ، ماهرون في الكذب والتكاذب ، وممثلون يجيدون الخيانة ببراءة كاذبة .
هذا الكيان الذي كنا فيه ، أفلس تماماً - خلقياً وعقلياً ومالياً وقضائياً وصحياً وتربوياً وإنسانياً وإجتماعياً . أفلس على الملأ . ومع ذلك , يتبارون في الرقص على جثة البلد . كل المحاولات الإنقاذية فشلت ، عفواً أفشلوها بذكاء شيطاني ، وكلهم يعني كلهم . لا بريء أبداً في ما بينهم . فهم عباقرة في الإرتكاب .
صدف أن وجد في هذه الجغرافيا الملعونة أناس مؤمنون بالوطن . حاولوا وفشلوا. صمدوا ثم تبدّدوا . رغبوا ثم خابوا . تأملوا ثم يئسوا . أكثرية الشعب اللبناني مؤلفة من أقليات متنازعة . هؤلاء ، لا يصنعون ثورة . يكتفون وبالإعلان عنها شفهياً . لا أحزاب علمانية وديموقراطية وتقدمية . لغتها خشبية . لا نقابات البتة . هياكل عظمية لا روح فيها . النقابات تابعة للطوائفيات .
دلونا على جسم سليم في هذا الكيان السقيم . لا شيء يبشر بفجر . كله كالح، أسود أو رمادي يعمي العيون ويطفئ القلوب .
وبعد كل ذلك ، فما العمل ؟
لم يتبقَ لنا سوى الخيانة . نعم الخيانة . علينا أن نصل إلى القطعية التامة مع هذا النظام المسخ ، هذا الكيان اللاغي للوطن ، هذا الوطن الذي يمتنع عن الحضور .
بكل موضوعية ، أعلن خيانتي لهذا اللبنان المسخ . أحببناه ، فكرهنا . قدمناه على الطائفية ، فتشبث بها . فعلنا ما نستطيع ولو قليلاً ، ولكنه تجنبنا وشرَّدنا . شعبه يملك من الذكاء والعلم والعبقرية الكثير ، ولكنه محكوم بعصابات شاطرة جداً في الغزو والفتك والبقاء وإحاطة مواقعهم بأتباع أحقر من أحقر الكائنات . يحمون محمياتهم بتأصيل التعصب والكراهية ، ويتبارون في إرتكاب الزنى السياسي في فراش الحكم الفاسق .
غداً ، سيموت اللبنانيون قهراً وجوعاً وفقراً وعوزاً ومرضاً . لم يبقى لسكان هذا الكيان رغيف خبز بسعر عرق الجبين . لا دواء غداً . الإفلاس الذي إرتكبه الحكام ، قديماً وحديثاً ، هو نتيجة طبيعية لتراخي الناس ومسامحتهم لزعمائهم . إنهم متهمون بخيانة أنفسهم لصالح مقاماتهم السياسية والمذهبية وهذا يشبه مغاور اللصوص .
الكيان الموروث من الإستعمار ، فشل المستعمرون في إصلاحه . حاولت فرنسا محاولة خائبة. إنما فشلت بسرعة . كيان مشلَّع بين محاور . هذا الأمر ليس جديداً أبداً . طول عمره موزع بالولاءات بين محاور ومذاهب وبلاد وثقافات . لا شيء يجمعه سوى سرقة البلد وأهله .
هل من إصلاح ؟ سؤال سخيف ومنحط . من سيقوم بهذه المهمة ؟ الناس ؟ أين هم ؟ الأزلام ؟ لقد قاموا بمهمة التدمير . عبث ، لا حل أبداً ، لا في الأفق المنظور ولا في الأفق البعيد .
نحبك يا لبنان الذي حلمنا به وطناً . نكرهك يا لبنان الذي هو صنيعة لصوص السياسة . وأفضل ما نقوم به هو خيانة هذا “اللبنان” على أمل قد يكون مستحيلاً في ولادة لبنان آخر ، في زمن غير معروف .
لقد إنتهى لبنان . مات . جثته حية ترزق ، لأن لا أحد مؤهل لدفنه أو لقيامته . وعليه ، سأخونك يا بلدي الحبيب وفي عيني دموع ، وفي قلبي غصة ، وفي أفقي عتمة .
اللعنة ثم اللعنة على من قتل لبنان الذي حلمنا به وطناً ، وحوَّلوه إلى مبغى .
فوداعاً يا لبنان